الأب قِدّيس يعطي دون انتظار مقابل.
الأب: رفيق دربك، ومصدر قوتك بعد خالقك، وكتاب حكمتك المتحرك في الحياة، وعنوان العطاء المتجلي أمامك. إنه الذي قيل عنه: سماء مُظلّة، وأرضٌ مُقلّة، وأصلٌ أنت فرعه، وشجرٌ أنت غصنه".
تجد يديك مكبلتين وأنت تريد أن تتحدث عن سبب وجودك، مهما كنت مجيدا للكتابة ومهما كانت الكلمات منقادة لك لكن عند الحديث عن الأب تراه تحرن وتمتنع عن المجيء، وكأنك تكتب لأول مرة، وكيف لا يكون الأمر كذلك وأنت تتحدث عن مثلك الأعلى، ومعلمك الأول، من رضاه أوصاك خالقك به، كيف لا يكون الأمر كذلك، وأنت تتحدث عن الجبل الذي استندت إليه في مراحل حياتك، رفيق دربك، ومصدر قوتك بعد خالقك، وكتاب حكمتك المتحرك في الحياة، وعنوان العطاء المتجلي أمامك. إنه الذي قيل عنه:
“هو ذاك الذي تطلب منه نجمتين، فيعود حاملًا السماء”
ورد في تعزية أحد الرجال بوفاة أبيه في كتاب سحر البلاغة وسر البراعة أن” الأب سماء مُظلّة، وأرضٌ مُقلّة، وأصلٌ أنت فرعه، وشجرٌ أنت غصنه”.
وقد وصل الأمر ببعض الناس من حبهم لأبنائهم أنهم خافوا عليهم أن يروا الحياة وما فيها من آلام فقد ورد في كتاب التمثيل والمحاضرة، أنه “قيل لبعضهم: لم لا تطلب الولد؟، فقال: حبي له يمنعني من طلبه؛ أي لئلا يبتلى بمكاره الدنيا”
العلاقة بين الأب وابنه:
في مراحل العمر الأولى ترى الابن ينظرإلى أبيه على أنه دولته وقوته المطلقة، بل يصل به الحال إلى أن يظن أنّ أباه أقوى من على الأرض. فتراه يلوذ به في كل حال، سواء في داخل البيت أم خارجه، تراه ينظر إليه بعينيه اللتين تلتقطان حركة شفتي أبيه؛ ولهذا يحاول تقمص شخصيته حال خروجه من البيت فإن كان الأب غضوبا ترى الولد يقلّد أباه في رفع صوته مع إخوته، وعندما يبدأ بالنمو شيئا فشيئا فإنه يزداد في تقمص حركات أبيه.
وبعد دخوله للمدرسة وبدئه بنسج مجتمع جديد من العلاقات خارج بيته، فإن الابن إن كان بارًّا عالمًا بفضل أبيه فستراه ينتظر لحظة اجتماعه بأبيه ليحدّثه بكل ما جرى معه، فتراه يفتح لأبيه قلبه لأنه يريد أن يرسم ابتسامة فرح وافتخار على محيا أبيه بتفوقه في دراسته أو عمله، وكم تراه منتشيًا عندما ينقل لأبيه كلمات ثناء عليه من شخصيات مرموقة.
وفي الغالب ترى الأب ينصت إلى ولده ويعطيه كل ما يريده من إصغاء وتفاعل مع ما يتحدّث به، حتى ولو كان ما يراه الولد شيئا كبيرا بالنسبة للوالد شيئا أقلّ من عادي، لكن الأب هذا القديس الكبير لا يوحي للولد بأن ما يتفاعل معه شيء عادي لا يستحق هذا التفاعل، ونحن هنا لا نتحدث عن الآباء القساة الذين لا يأبهون لأمر أبنائهم وقد وردفي الميراث النبوي أنّ صحابيًّا تعجّب من تقبيل الرسول عليه الصلاة والسلام لأحفاده ومداعبته لهم، فما كان من النبي إلا أن قال له : “إنه من لا يَرحم لا يُرحم”.
فمحبة الابن لأبيه وخاصة عندما تكون علاقتهما علاقة الصديق بصديقه، والمعلم بتلميذه؛ لأن من كان أبوه صديقه وحبيبه ومستشاره، لن ينكسر ولن يحتاج إلى أحد بعد الله؛ لأنّ ما يعطيه الأب من قوة دافعة لولده تنمي ثقة الولد بنفسه وتجعله ينطلق في فضاء مفتوح ملؤه المروءة والمحبة وصفاء القلب وعزّة النفس، خاصة عندما يرى هذه المعاني ماثلة أمام عينيه في مراحل حياة أبيه.
وقد قال أحد الأدباء واصفًا محبته لأبيه؛ حتى وصل به الأمر أنه ظنّ ان محبته لأبيه تفوق محبته له فقال: “يا أبي إن حبّي لكَ يفوق حبّك لي؛ لأنّ لك أبناء سواي ولا أب لي سواك”.
العلاقة بين الأب وابنته:
قصة العشق والحب بين الأب وابنته لا تستطيع الكلمات وصفها؛ لأنها شعور ملائكي رقيق نقي، وقد علل أحدهم تعلق البنت بأبيها قائلا: “إن السبب الذي يجعل البنات يعشقن أباءهن أكثر من أي شيء آخر. هو أن هناك رجلًا واحدًا في العالم لن يؤذيّهن أبداً”.
فالأب بالنسبة للبنت صمام الأمان، وموطنها الدائم، فهي تعرف أنها في قلبه موجودة مع كل خفقة من خفقاته، وفي فكره، تعرف أنها حاضرة في كل وقت وحين.
وتبقى صورة الأب ماثلةً أمام عينيها حتى في اختيار زوجها فترى كثيرا من البنات يملن إلى الشاب الذي تذكّرها صفاته بصفات أبيها.
وبالمقابل ترى الأب يتعلق بابنته مستشعرا أنها أمه الصغيرة، يجد عندها الرأفة والحنان والاهتمام؛ ولهذا ترى رجالا يخاطبون بناتهم بقولهم مرحبا بأم أبيها.
كيف تكرّم أباك وتبرّه:
-
الاهتمام
الاهتمام بالأب يكون بإظهار حبّك له، كثير من الأولاد تراهم يقولون إنني أحب أبي جدا يقولونها لأصدقائهم ولأصحابهم، ولكن ربما يجدون نوعا من الخجل في الإفصاح عن هذا الشعور أمام أبيهم لتعلم أيها الابن أن الأب لا يملّ من سماع كلمات الحب التي تقولها له، لتعلم أنه يعتبرك جزءًا منه يتحرّك على الأرض، فكلما تقرّبت منه يشعر أن هذا الجزء لم يفترق عنه بل ما زال معه ومرافقا له.
بعض الأولاد تراهم لا يملون من الساعات الطوال مع الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي ويستثقلون ساعة من النهار يكونون فيها بصحبة أبيهم يحاورونه ويحادثونه ويشاركونه أفراحهم وآلامهم وأهدافهم، ولكن بعد مرور الوقت ووصول الآباء إلى الشيخوخة أو رحيلهم من هذه الدنيا يندمون ندامة الكُسَعي ويتمنون لو أن الزمن يعود ولو لساعة أو أقل؛ كي يجلسوا مع أبيهم وخاصة بعد خيانة الصديق ومغادرة الحبيب وهجوم الدنيا عليه ناشبة أظفارها بوجهه عندها يسترجع الزمن الذي كان أبوه يجلس وحده في غرفة من غرف البيت أو ينتظره على باب البيت كي يجالسه، ولكن الولد كان يمل من لحظة جلوس مع أبيه ويجد اللذة مع أصدقاء تركوه وحيدا في أول موقف احتاج إليهم فيه.
-
تحقيق ما يحبه:
لن تجد شخصا في الأرض يتمنى أن تتفوق عليه غير أبيك، ولن تجد سعيدا بتفوقك عليه مثل أبيك، فالأب يسعى طوال حياته كي يكون ابنه خيرا منه، ويقدّم له ما يستطيعه وفوق طاقته؛ كي يصل الابن إلى ما لم يصل إليه الأب في حياته سواء أكان في الجانب العلمي او العملي، وهنا نستحضر تلك القصة المؤثّرة التي عرضت في إحدى حلقات مسلسل مرايا، عندما تخرّج الابن المهندس وجاء مخبرا أباه بتخرجه منتظرا أن يستأجر أباه له مكتبا ليبدأ حياته العملية، فما كان من الأب إلا أن اهداه كتابا بمناسبة هذا التخرج المنتظر، فهجر الولد أباه مغضبا وقال لن يكلمه أبدا، وبدأ بالعمل ونجح وتزوج دون إخبار أبيه الفيلسوف الأكاديمي المحترم والموقر، بل كان يفعل كل ما يغيظ أباه، حتى وصل به الأمر إلى أن ينجب ولدا ويأتي الأب رؤية حفيده أو حفيدته، وعندما اقترب منها ليمسكها وقع على الأرض ميتًا، وعندها صار الولد يصرخ باكيًا، وعاد إلى بيت أبيه يريد أي شيء أعطاه أياه أباه، وعلى رأس هذه الأشياء الكتاب الذي كان سبب هجره لأبيه فتح الكتاب وإذ به ورقة مكتوب فيها رسالة مؤثرة عن فرحة الأب بتخرج ابنه، ووضع فيها مفتاح المكتب الهندسي الذي اشتراه الأب دون علم ابنه.
إذًا عندما تحقق شيئا يحبه أبوك فأنت بذلك تهديه أجمل هدية وهنا عليك ألا تنسى أن كل ما تعطيه لأبيك لن يكون مكافئًا لما قدّمه لك، فهو أعطاك دون أن يشعر أنه يفعل لك، بل كان يشعر أن ما يفعله يفعله لنفسه، فيقدّم لك بحب دون انتظار مكافأة.
فإذا كان يسعد أباك أن يراك متفوّقا فابذل قصارى جهدك لتحقيق هذه الأمنية له، ويا للأسف كم من أولاد يقدم لهم آباؤهم الكثير ولكنهم لا يبالون ولا يكونون على قدر المسؤولية فيجرحون قلوب آبائهم ويضيعون أعمارهم في أمور لا تسمن ولا تغني من جوع.
-
احترام أصحابه:
من علامات البر بأبيك أن تحترم أصحابه وتقدّرهم حتى بعد وقاته فهذه من سمات المروءة والتربية الصالحة وكذلك هي من أكبر الدلائل على صدق محبة أبيك؛ لأن المحب يحب ما يحبه المحبوب، وأنت ستلحظ كثيرا كم يسعد الآباء باحترام أولادهم لأصدقائهم، وتوددهم إليهم. وقد ورد في الحديث: ” إن أبرَّ البرِّ صلةُ المرءِ أهلَ ودِّ أبيه…”.
حاولنا أن نقدّم في هذا المقال بعضا من الصفات النبيلة للأب، التي هي أوضح من أن تذكر في كلام، ولكن مع هذا تجد بعض الأولاد غافلين عن نعمة الأبوة، ووربما لا يشعرون إلا بعد مرور عمرهم، وكما قيل لن تعرف قيمة أبيك حتى تصبح أبا، أو بفقدانهم ورحيلهم وعندها ستعرف الجبل الذي كنت مستندا عليه وفقدته، عندها ستعرف كم أنت طفل صغير أمام أبيك مهما بلغت من العمر، ومهما حصّلت من العلوم والخبرات الحياتية.