في اللغة العربية كما في باقي اللغات نجد أنّ الألفاظ أقل من المفاهيم؛ ولهذا فإن اللغات عموما تلجأ إلى طرق متنوعة لتوليد ألفاظٍ تناسب ما يستجد من مفاهيم معاصرة في الحياة، فمثلا مصطلحات: الجوال، والحاسوب، والهاتف، والسيارة، كلها ألفاظٌ تغيّرت دلالتها، لتدل عبر الزمن عن مفاهيم مستجدة لأشكال ارتبطت بتطور معرفي حضاري، فالسيارة مثلا كانت تشير إلى مجموع القوافل، وإلى الكواكب، ثم أصبحت تدل على هذه الآلة المتحركة بالوقود على عجلات، مثلها أيضا كلمة الهاتف: التي كانت تشير سابقا إلى الصوت الذي يسمعه الإنسان دون أن يرى المتكلم، فنحن قرأنا كثيرا في كتب التراث عبارات تقول: هتف لي هاتف أن أقدم على الأمر، هذا الهاتف أصبح يدلّ على الجهاز الذي تسمع من خلاله صوت الإنسان الذي لا تراه، طبعا هذا قبل أن تأتي الهوانف المزودة بالكاميرات، التي أطلق عليها جوالات، كناية عن المرافقة الدائمة لهذا الجهاز لحامله.
أنواع التغير الدلالي في اللغة العربية:
إن التغير الدلالي لا يتكون من خلال نمط واحد، فلو كان التغير الدلالي مرتبطا بمجال معين لضاقت اللغة عن استيعاب المستجدات التي تتوالد بالآلاف؛ ولهذا فإننا ومن خلال كتب اللغة، والباحثين في الدلالة نجد أن الدلالة تتغير وفق الآتي:
-
تضييق الدلالة:
ويقصد به أن يكون لدينا لفظ عام يشير إلى معنى عام، ثم يخصص بمعنى معين، ومثاله: الصلاة، التي كانت تعني الدعاء بشكل عام، ثم أصبحت بعد الإسلام تشير إلى البدء بالتكبير والركوع والسجود والتسليم. فلو قلت صلاة لن يخطر ببالك إلا الصلاة التي عرفت بمفهومها الفقهي الذي عرف بعد الإسلام.
-
اِتّساع الدّلالة:
وهي الشكل المغاير للسابق، فالسابق يعني التخصيص، أما الثاني فيفيد معنى الاتساع بحيث تكون الكلمةمفيدةً معنىً خاصًّا، ثم تنتقل للدلالة على مفهوم يشمل أكثر من معنى، ومثاله كلمة العين: هذه الكلمة تفيد العين الباصرة، وعين الماء، وسيد القوم، والجاسوس، وهي تدخل ضمن ما يعرف بالاشتراك اللفظي الذي يعد نوعا من أنواع التغير الدلالي، ويندرج تحت ما يطلق عليه مصطلح: اتساع الدلالة.
-
المجاز:
المجاز في اللغة العربية بتعريف بسيط وموجز هو: انتقال الكلمة من معنى لآخر بسب العلاقة بينهما، مثال ذلك كلمة: الأضحية، التي أخذت اسمها من الزمن المجاور والملازم للذبح، وهو وقت الضحى ومن هنا أصبحنا عندما نقول (الأضحية) فإن ذهننا فورا يلتفت إلى معنى الحيوان الذي يذبح تقرّبًا إلى الله في عيد الأضحى.
والآن سنذكر لكم مجموعة من الكلمات التي تغيرت دلالتها، وسنبين لكم نوع التغير الدلالي الذي تندرج تحته، مع نظرة في معاانيها عبر المصطلحات التي خصصت للمصطلحات في تراثنا التليد.
كلمات تغيرت دلالتها:
سنذكر في هذا القسم مجموعة من الكلمات التي تغيّرت دلالتها عن طريق تخصيص الدلالة بعد دخول الإسلام، وظهور العلوم الإسلامية واللغوية التي كوّنت منظومة مصطلحية خاصة بها، تجمع سلسلة من الحقول العلمية المتضمنة لمجموعة من المصطلخات المرتبطة بمفاهيم ظهرت بعد دخول الإسلام.
فمصطلحات الفقه في معظمها ظهرت بوساطة تخصيص الدلالة، وسأمثل بأمثلةٍ أُدرِجت في المعاجم قيد الدراسة، يتضح من خلالها كيفية تخصيص معانيها:
الترجيع:
قال الخوارزمي (محمد بن أحمد ت 385هـ) في كتابه مفاتيح العلوم: ” التَّرجيع هو: أنْ يعود في قوله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمداً رسول الله، ويكرّر ذلك، وهو مذهب أصحاب الحديث. فأمَّا الترجيع في الصوت، فهو ترديده وتكرير أجزائه”. وفي التعريفات هو “أنْ يخفِض صوتَه بالشهادتين ثم يرفع بهما”. وفي مقاليد العلوم : “إثباتُ الشَّهادتين سرًّا قبل إتيانهما جهرًا”. وفي التوقيف على مهمات التعريف : “ترديد الصوت باللحن في القراءة والغناء، ومنه الترجيع في الأذان”. وفي كشاف اصطلاحات الفنون: “هو أنْ يأتيَ المؤذِّن كلًّا من الشَّهادتين مرّتين خافضًا بهما صوتَه ومرّتين رافعًا بهما صوتَه”، وفي دستور العلماء: “جعلُ الشيءِ راجعًا. والترجيع في الأذان أن يقول كلاً من الشهادتين أوّلًا مرتين خافضًا صوته، ثم كلًا منهما مرتين رافعًا صوته فيكون كلٌّ من الشهادتين أربعَ مراتٍ أولًا مرتين مخفوضًا وثانيًا مرتين مرفوعًا”. إنّ كلمة التَّرجيع لغةً كما بيَّن عددٌ من أصحاب المعاجم: كالخُوارزمي، والمناوي، والأحمدنكري، يفيد الترديد في الصَّوت عمومًا، فالتَّرجيع كانت دلالتُه عامةً على ترديد الصَّوت في الحلق،ثم خُصِّصت في الإسلام بالمعنى الذي ذكره أصحاب المعاجم.
الزَّكاة:
انطلق المعجميون في هذا المصطلح من المعنى اللغوي إلى المعنى الاصطلاحي، فدلّ هذا الانتقال على تخصيص دلالة اللفظ. فقد عرّفه الجرجاني بقوله: “الزكاة في اللغة: الزيادة وفي الشرع: عبارةٌ عن إيجاب طائفةٍ من المال في مالٍ مخصوصٍ لمالكٍ مخصوص”. وعند المناوي: “الزكاة لغة: الزيادة، وشرعًا: قدْرٌ من المال في مالٍ مخصوصٍ لمالكٍ مخصوصٍ”، وفي كشاف اصطلاحات الفنون: “الزَّكاة في اللغة: النموّ الحاصل من بركة اللّه تعالى. وفي الشريعة: قدرٌ معيَّنٌ من النّصاب الحَوْلي يُخرجه الحرّ المسلم المكلّف للّه تعالى، إلى الفقير المسلم الغير الهاشمي…”، وعند الأحمدنكري: “الزَّكاة في اللغة: الطَّهارةُ والنّماء والزيادة. وفي الشَّرع: إيتاءُ جزءٍ من النِّصاب الحَوْلي إلى الفقير، وقيل هي: اسمٌ للقَدْر الذي يُخرَج إلى الفقير”.
الإمالة:
ورد هذا المصطلح عند الخُوارزمي في حقل النحو الذي ضمّ فيه مصطلحات الصرف إلى النحو، فبيَّن المعنى الاصطلاحي له بالتمثيل قائلاً: “والإمالة: ما وقع على الحروف التي قبل الياءات المرسلة، نحو عيسى، وموسى”، وعرَّفه الجرجاني بقوله: “الإمالة: أن تنحى بالفتحة نحو الكسرة”، وفي مقاليد العلوم : “الإمَالةُ: أنْ تنتحي بالفتحة نحو الكسرة لقصد المناسبة”.وبيَّن المناوي أنّ الإمالة هي: “أن يُنحى بالفتحة نحو الكسرة وقيل أن يُنحى بالألف نحو الياء”. وعند التهانوي : “الإمالة هي عند القرّاء و الصرفيين أن ينحو بالفتحة نحو الكسرة و بالألف نحو الياء كثيرًا…” وفي دستور العلماء يذكر الأحمدنكري المعنى اللغوي لهذه الكلمة، الذي يُستَدل منه على أنها كانت تفيد العموم، ثم يتبعه بذكر المعنى الاصطلاحي الذي حَصَر دلالة هذه الكلمة عند الصرفيين فيقول: “الإمالة: مصدرُ قولِك أملْتُ الشيء إمالةً، إذا عدلت به إلى غير الجهة التي هو فيها من مالَ الشيءُ يميل ميلاً، إذا انحرف عن القصد، وهي في اصطلاح التصريف: أنْ يُنحى بالفتحة نحو الكسرة، أي عدولٌ بالفتحة عن استوائها إلى الكسرة، وذلك بأنْ تُشرَب الفتحةُ شيئًا من صوت الكسر، فتصيرَ الفتحة بينها وبين الكسرة”.
ذكرنا في هذا القسم ثلاث كلماتٍ حصل فيها تغيّرٌ دلاليٌّ عن طريق ما يعرف في علم الدلالة بمصطلح (تخصيص الدلالة) وسنتايع -إن شاء الله- ذكر كلمات أخرى في المقالات القادمة.