الوحدة كيف تستثمرها وتحولها إلى طاقة إيجابية

أصبحت الوحدة في مجتمع تتزايد فيه الانشغالات وتعلو فيه أصوات المصلحة الذاتية، مساحة لروح الإنسان الذي يراها لا تألف هذا الواقع المعيش وهذه الساحة التي يتصارع فيها أصحاب المصالح الذين فهموا لغة هذا الزمن وتأقلموا معه وفق آلية تقوم على مصلحة تقابلها مصلحة، والمرغوب أكثر هو الذي يجد الناس عندهم مصالحهم، ولا يهم أكان هذا الإنسان يوجِد لهم مصالحهم بسرقة حقوق الآخرين، أو بتيسير تزوير أوغشهم وخداعهم، المهم أنه يحقق لهم مصلحتهم، وسط هذه الدوامة المصلحية تبقى هناك مجموعة من الأرواح منحشرة في زاوية بعيدة لا تستطيع الاندماج مع هذا الوسط وهذا المجتمع، فتراها تبحث عن ساحة أخرى تجد فيها ذاتها وتحاورها بصوت مفهوم وإذ بهذه الساحة هي ساحة الوحدة.

الإنسان كائن اجتماعي:

لقد تناقلت الأجيال عبارة أرسطو: “الإسنان كائنٌ اجتماعي” وهذه عبارة صحيحة ، فكل إنسان تراه باحثا عن مجتمع يفهمه ويسمعه صوته ويسمع صوته، ولكن مع هذا فإن هذه الاجتماعية المطلوبة ليس كل الناس يتأقلمون معها؛ إذ ثمة أحوال وسمات لشخصيات إنسانية لا تستطيع الانغماس في العلاقات الاجتماعية، لا سيما العلاقات المزيفة التي لا تكون صادقة، فتراهم يتركون المجتمع ويختارون الوحدة ملاذا آمنا، لكن ربما تزيد الوحدة من إحباطهم إذا لم يعرفوا كيفية استثمارها.

كيف تستثمر الوحدة:

إن الاجتماع بالنفس والاختلاء بها لمجرد الشرود والتفكير بالناس فهذا يعني أنك لست وحدك بل تجمع مجتمعا إنسانيا يفوق ذلك المجتمع الذي يمكن أن تجلس معه، بل الوحدة مع الشرود والتفكير بالناس تؤدي إلى مراقبتهم ومن راقب الناس مات همًّا كما قيل في العبارة المشهورة؛ ولهذا فإن الوحدة إذا أردت أن تكون إيجابية فلا بد من استثمارها واستثمارها يكون بأمور عديدة نذكر منها:

• التأمل في الوجود والعلة منه:

في الوحدة تصفو الرؤية ويخف الضجيج وتصبح اللحظة محسوسة تتيح لك التأمل بهذا الخلق العظيم، تتأمل شروق الشمس، وملامسة شعاعها لصفحات المياة وللأزهار وتلمح  لمعان قطرات الندى التي تتراقص على رؤوس أوراق الأشجار والأزاهير، ثم تشاهد جمال الغروب وذلك الشفق الذي يجمع بين لون الحزن ولون الوداع مذكِّرا إياك بأحبة رحلوا وبأن رحيلك سيكون مثلما انغمست الشمش وراء الجبال والبحار، كل هذا يولد عندك في وحدتك طاقة تأملية تدرك من خلالها أن وجودك ليس عبثا وأن حركتك في هذا الكون ليست بلا معنى، وأن عليك أن تقتدي بخلق الله البديع القائم على الحركة الدائمة دون كلل أو ملل، وهذا يولّد عندك طاقة إيجابة لا تجدها في التجمعات الصاخبة والأماكن المكيفة التي يعلو فيها الصياح والضجيج، ولكن في وحدتك تجد نفسك تعزف على وتر التأمل فتولد لحنا قوامه الرغبة في الحركة بعد فهم الغاية من هذا الوجود.

• القراءة:

القراءة ليست مجرد تقليب أوراق أو تغيير صفحات على الحاسوب القراءة انفتاح على عوالم متعددة وتكون مع الوحدة الصافية أكثر تأثيرا، فلا ننسى أن خير جليس هو الكتاب، وكم هي عظيمة بداية ما أنزل من كتاب الله العظيم حيث كرّمت القراءة بأن كانت أول كلمة مأمور بها النبي هي: {اِقْرأ…}.

فعندما تكون وحيدا ستجد عالما فسيحا تؤمنه لك القراءة تستجم بين أسطر الكلمات ومن ذاق هذه اللذة عرف، وفهم ولم يعجب من كلامنا عن دور القراءة في الاستجمام الروحي.

فالكتاب كما قال ديبارو: “صديقٌ لا يخون” وكما قال مونتسكيو: “حب المطالعة هو استبدال ساعات السأم بساعات من المتعة”.

فلا تسمح لوحدتك أن تقودك وتحصرك في وسائل التواصل الاجتماعي التي تخلط عليك المعلومة بين صورة وكلمات وأخبار حزينة وأشخاص تافهين مع كلام أشخاص ناضجين، وأفلام سياحية مع صور قتل وتدمير. هذه الوسائل لو تركت لها الحبل على غاربه فعندها أنت لست وحيدا بل ضائعا تائها مدمرا لتلافيف دماغك لا معلومة صافية تأخذ ولا حفظ كلام مأثور يستقر بل خبط عشواء كحاطب ليل لا يدري ما حمل وماذا أخذ في عقله، هذا عداك عن الحالة النفسية السيئة التي تعتريك بعد أن تطيل وقتك أمام الشاشة وأنت تتابع أخبار وترفيه وثقافة وتفاهة وكل شيء مما يحتويه عالم التواصل الاجتماعي الافتراضي، وقتها عليك أن تترك هذا العالم وتذهب إلى عالم التواصل الحقيقي؛ لأنه وإن كان لا يخلو من المنغصات إلا أنه أفضل بمئات المرّات من عالم التواصل الافتراضي الوهمي المولد للإحباط واليأس والاكتئاب.

• التخطيط لمشاريع قادمة:

عندما تكون دائم الاتصال بالناس في البيت والشارع والعمل والمقاهي، فإنك لن تجد وقتا لكي تضع خططا لمشاريعك المستقبلية، والخطط ليس جمالها في تحقيقها وحسب، بل هي التي تجعلك تشعر أنك تعرف قبل الخطو أين تضع قدمك، وهذه ميزة ليست بسيطةً أبدًا.

ولهذا فإن اختيارك لساعات تكون فيها وحدك يسمك لك أن تفتح من الوحدة نافذة تطل منها إلى مشاريعك ترسمها بدقة وتسعى إلى تحقيقها دون اليأس من عدم الوصول، فعلى المرء أن يسعى إلى الخير جهده…وليس عليه أن تتم المطالب.

فإن كنت طالبا فضع لنفسك مخططا لدراستك والمواد التي عليك التركيز عليها لتُحصّل درجات تنال من خلالها هدفك المنشود في الدراسة، وإن كنت مستثمرا فتقف مع نفسك وتجري مراجعة لما أنجزت وترسم خطة لقادم أيامك بحيث تكون الخطة جامعة لصور المخاطرة ولصور النجاح، وهكذا في أي مجال كنت تعمل فإن الوحدة تتيح لك مساحة تستثمر فيها صفاء عقلك في وضع خططك.

• التعلّم:

الجميل في زمننا أن التعلم لم يعد حكرا على المكان الفيزيائي الذي عليك الذهاب إليه، بل صار يمكنك في هذا الزمن إذا كنت وحيدا أن تبحث عن منصات مجانية أو بأجر تتيح لك تعلّم الشيء الذي تحبه سواء أكان في ميدان المهن، أو الفنون أو في أيّ مجالٍ من مجالات المعرفة.

• ممارسة الهوايات:

الهواية هي الشيء الذي تمتلك موهبة فيه من الله وتعشقه وتنميه بالعلم والمعرفة وفي الوحدة يكون مجال استثمار الوقت في ممارسة الهوايات أوسع وأكثر فلو كنت رساما فالرسم سيؤنسك في وحدتك، وهكذا لو كنت كاتبا، أو موسيقيا، أو هاويا لأي هواية من الهوايات المعروفة في هذه الدنيا، فإن الوحدة تساعدك في ممارسة هوايتك.

فالهواية فيها علاج للضغوطات وإحساس بالسعادة لا يستطيع الهاوي التعبير عنها، لأنها تأخذه في رحلة روحية تفوق وصف الكلمات المحسوسة.

هذه بعض من ميادين استثمار الوحدة التي لا نقول إنها تشمل كل الميادين، لكنها تعد من أكثر الميادين التي إذا استثمرت بها الوحدة، فإن الوحدة لن تغدو ذلك الشيء المخيف الذي تنفر منه النفس، بل ستنقلب إلى عالم جمالي نفهم من خلالها ذواتنا بعالم موازٍ للعالم الواقعي الحزين الذي صار فيه صوت النفاق يعلو إلى حدّ كبير والكذابون والغشاشون تجدهم في معظم الأماكن حتى في الأماكن التي خصصت لتنمية العقول وبناء الحضارات مثل: الجامعات والمدارس، فإنك صرت تجد جوّها مليئا بالكيد والحسد والمؤامرات والغش والخداع، فالذي لا يستطيع أن يجاري الناس في كذبهم ويجد نفسه غريبًا بينهم عليه أن يصادق نفسه ويعقد معها جلسات في ركن الوحدة الهادئ يصارحها ويدللها ويكلمها ويفسحها بين قراءة وخطط وتعلم وهواية فيبني مع كل جلسة وحدة لبنة من لبنات سعادته الخاصة التي لا تتأثر بكل ما حولها من فساد وغش وخداع وبعد عن الفطرة والصفاء.