احذروا من اليأس والعزلة فقد يوصل إلى الانتحار

أظهرت دراسة حديثة أن اليأس والعزلة من أهم أسباب زيادة معدلات الوفيات في الولايات المتحدة الأمريكية مقارنة مع ست عشرة دولة، حيث قارنت الدراسة بين حالات الوفيات في الولايات المتحدة وكل من: أستراليا والنمسا وبلجيكا وكندا والدنمارك وفنلندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والنرويج والبرتغال وإسبانيا والسويد وسويسرا والمملكة المتحدة.

وخلصت إلى أن معدلات الوفيات في اليات المتحدة تفوق معدلاتها في هذه الدول، وووضعوا على رأس هذه الأسباب ضعف الاهتمام بالإنسان من ناحية عزلته وإحباطه وعدم وجود المجتمع الإنساني الذي يحتويه.

أسباب زيادة الوفيات:

خلصت الدراسة إلى أن اهم عامل في زيادة الوفيات هو اليأس من تأمين الحياة الطبيعية، وهذا يرجع إلى عدة امور على رأسها:

• تغير البيئة الثقافية:

سلطت الدراسة الضوء على موضوع تغير مفهوم العلاقات بين الناس مع انتشار ثقافة الفردية المطلقةن والانعزالية التامة، وهذا جعل كثيرين يميلون إلى أمور تلهيهم عن وحدتهم مثل الإكثار من شرب الخمور، او اللجوء إلى المخدرات.

ويرجع الباحثون السبب إلى الدوبامين الذي يوجه الدماغ إلى الحاجة إلى الأصدقاء والرفقاء، وهذا يعني أن العزلة تجعل الدماغ يريد أن يلبي حاجة الدوبامين من خلال سلوك سيئ يوصل إلى الاتجاهات الخطيرة التي ذكرناها قبل قليل.

إن تغير البيئة الثقافية لا ينحصر بالمجتمع الأمركي وحده، فالدراسة لو أجريت على جميع المجتمعات اليوم لوجدت الأمر نفسه حتى في المجتمعات التي كانت تمثل الأسرة والصداقات فيها عنوانا لوجودها، فإنها اليوم أيضا تعاني من عزلة قاتلة.

فنحن في منطقتنا العربية لا نجد ذلك الدفء في العلاقات الذي كان موجودا فيما سبق بل على العكس، صرنا نرى التركيز على الوحدانية، فمثلا ترى المشاهير عندما يسألون هل لكم أصدقاء تشاركونهم سهراتكم وأفاكركم، يميل الأكثر إلى الإجابةالتي صرنا نعرفها أنا (بيتوتي) أي ملازم للبيت، ولكن تلمح في حواراتهم صوت ليأس المرتفع في داخلهم رغم محاولتهم الظهور بمظهر المتفائل، والمنطلق في الحياة، ولكن هذه الحيوية صارت تفضحها وسائل التواصل الاجتماعي حيث يبوح الكثيرون منهم عن معاناتهم النفسية.

وهذا طبعا لا يعني أن غير المشاهير أفضل حالا، ففي المجتمعات الصغيرة صرنا نرى عبارة مشهورة (كل واحد بحالو) أي كل إنسان يكفيه ما فيه من هموم ومشاغل.

إن كل ماسبق أدى إلى ظهور مجتمعات مفككة، ومن أهم مظاهر هذا التفكك:

التفكك الأسري:

ترى الدراسة التي أعتبرها ممثلة ليس لأمركيا وحدها بل لكثير من المجتمعات الغربية والشرقية: أن الثقافة المجتمعية الجديدة، اوجدت بيوتا كثيرة يعيش فيها أحد الآباء وليس الأبوين معا، وهذا جعل تحمل تكاليف الحياة كبيرا جدا على عاتق الذي يعيش مع الأبناء وحده دون الشريك الذي عقد معه عقدا اجتماعيااليأس على البقاء معا مدى الحياة.

هذه الحالة من التفكك الأسري، ربما تدفع المتضرر من أحد الآباء أو الأبناء إلى النتقال إلى مرحلة من اليأس لا ينفع للخروج منها سوى الدخول فيظلام دامس قد يوصل للانتحار.

هذا التفكك الأسري صار ظاهرة في المجتمعات خاصة مع التفلت في ضبط العلاقات بين الجنسين، فصرنا نرى موضوع الطلاق كأنه ترك بيت مستأجر، وليس تدمير نفوس وتحطيم قلوب، او لنقل حاول بعضهم إظهاره بهذه الصورة، نحن نعرف أن الطلاق حل لعلاقة معقدة لم يعد ثمة مجال لاستمرارها، ولكن للأسف في مجتمعات اليوم، مشكلات بسيطة صارت تؤدي للانفصال.

علامات اليأس المخيفة:

هناك إشارات توحي للأشخاص القريبين من الشخص اليائس أن يأسه وعزلته صارا مهددين لحياته، من ذلك مثلا تغير سلوكه بشكل بعيد جدا عن طبيعته المعتادة، كأن يبدأ بالدخول في سهرات لم يكن يدخلها، أو مشاركة صداقات غريبة وعجيبة، ومن هنا فإن على المقربين من الشخص وخاصة أسرته أن يحاولوا علاج الحالة التي يمر بها الشخص المقرب لديهم.

ومن العلامات كتابة التغريدات والمنشورات التي تظهر أن الشخص سيقدم على فعل خطير، كأن يكتب عن إنهاء الحياة، وأن الحياة لم تعد تطاق، ولا يجد مجالا ولا طريقة ليستمر في حياته، هذه الكلمات يجب ألا تترك سدى دون أن تأخذ بعين الاعتبار، فكثيرون من المنتحرين، بدؤوا بالحديث عن الانتحار بعبارات ظنها البعض أنها وصف للحياة، وليست تمهيدا لإنهاء حياة كاتبي هذه المنشورات والتغريدات.

من العلامات التي أشارت إليها الدراسة الإكثار من شرب الخمور، إذ إن هذا الفعل وبحسب الدراسة يعني أن الإنسان ممكن أن يصل إلى حالة تسمم تؤدي إلى وفاته، نحن المسلمين يحرم عندنا شرب الخمر، فمن ينتقل إليها بعد حالة من الامتناع فهذا دليل كبير على مدى سوء الحالة النفسية التي يعيشها الشخص الذي تجاوز الخط الأحمر وهو التحريم، وانتقل إلى الخمر، فهذا يعني أنه يعاني من عزلة مطلقة، أو يأس مطبق.

الدراسة أشارت إلى مسألة مثيرة للدهشة وهي أن معدلات الانتحار أكثر عند العرق الأبيض من الأعراق الأخرى مثل اللاتينية، والإفريقية التي تعيش في الولايات المتحدة.

الدراسة تنبهنا إلى امر خطير وهو أن  مجتمعاتن الثقافية القديم ونقصد بها العلاقت الاجتماعية التي كانت فيها تلعب دورا كبيرا في الخلاص من اليأس، والعزلة، فكما قيل بالعامية اليد الواحدة لا تصفق، ولهذا علينا ألا نربي في أبنائنا مفهوم العزلة والرغبة في العيش في زاوية بعيدة عن التواصل؛ لأن هذه العزلة ستؤدي بهم إلى الدخول في سواد حالك من اليأس والإحباط.

الحل هو السعي إلى بناء مفهوم تربوي معاصر يقوم على إعادة تأهيل الناس تواصليًّا بعد طغيان العالم الافتراضي على كثير من تفاصيل حياتنا، طبعا لا شك أن تأمين الظروف الاقتصادية المناسبة يخفف من حالات اليأس، ولكن حتى في ظل الظروف الاقتصادية السيئة فإن الإنسان وحده في مواجهتها ييأس ويعتزل وربما ينتحر، أما مع وجود مجتمع فيه صلات وود فإن كثيرا من المشاعر السلبية تنخفض ولا يكون لها الأثر السلبي  كما لو كان منعزلا وحيدا.