ولجنا هذا الكون وعرفنا أول وطن في حجر أمنا وأبينا، ثم في زوايا دورنا التي عرفت أولى صرخاتنا، تكوّنت شخصياتنا، هناك في تلك الزوايا الصغيرة، نمونا كما تنمو البذرة وتظهر؛ لتتنفس تحت ضوء الشمس نسيم الصباح وهواءه، وبدأت خيوط الحياة تتضح، ومع هذه الخيوط صرنا نرسم لنا خريطة القلب الكبير الذي جمعته أحرفٌ ثلاثة إنه وطن.
وحكم علينا نحن أبناء هذه المناطق أن تكون لمن يحمل شهادة في العلوم الإنسانية حلم ولوج باب الغربة؛ ليحظى بشيء من مال، ينزع عنه صفة (الشغل ليس عيبًا)، عندما يجيب عن سؤال ما عملك؟ فكبرنا وجزرةٌ أمام أعيننا مكتوب عليها: غدًا بعد نيلك للشهادة العليا يفتح لك باب السعد، بعقد إلى دولةٍ ما تُحسِّن بها أحوالك، وتصبح مثل فلان كان لا يملك شيئًا، وانظر إليه الآن كل سنة يأتي بسيارة مغايرة للتي قبلها، وهكذا لا يرى الناس إلا السيارة والعمارة، ولكن لا يستطيعون الولوج إلى قلب ذلك الذي ركب السيارة بعد سنين غربة، دمّرت فيه أشياء تفوق العمارة والسيارة، ولا يستطيع عمارتها من جديد. وبعد أن تنال هذا الكنز الموعود وتصل إلى مبتغاك سيارة وعمارة وعقد، تبدأ تبحث عنكَ فلا تجدك أين ذلك الذي كنتَه، من أنت الآن لماذا صرت هكذا؟ لا تدري.. ولا تنحصر فرقة الوطن بدافع المال، بل ربما صاحب المال نفسه، تشده أحلامه إلى بلادٍ أخرى بحثًا عن شهادةٍ، أو تجارةٍ، أو رغبةً في تغيير المكان، ولكن تجمعه مع ذاك الباحث عن المال في بلاد الغربة كلمة (غريب).
تجلس وحدك وأنت غريب تقلّب حياتك على صفحات الزمن الماضي، تستحضر صورك وأنت تحبو هناك في تلك الأرض، تتذكر في لحظات الوحدة أدق تفاصيل وجودك، بل حتى عدد الابتسامات ممن حولك. ترسم في جدار ذهنك صورًا مثالية لمكانك الذي كان حلمُكَ فراقَه، لكنّ الغربة تجلو الصور أكثر ويتكلم القلب بصوته الحقيقي بلا غشاوة، لكن تكتفي بالذكرى لعدم قدرتك على إعادة ما كان؛ لأنك أنت فقدتَ نفسك أنت. تصبح جليستك ذكرياتك البعيدة وتردد قول فدوى طوقان:
اليوم ماذا اليوم غير الذكريات ونارها؟
واليوم، ماذا غير قصة بؤسكنّ وعارها
لا الدار دار لا ولا كالأمس، هذا العيد عيد
ترى وجوها كثيرة في مسرح الغربة لكنّ ستارة هذا المسرح سريعة الإسدال، فالوجوه ليست حقيقيةً والمشاعر أغلبها تمثيليّة، وآهٍ لو كنت ممن ينقادون وراء عواطفهم فيظنّون كلّ ابتسامةٍ وسم ترحيبٍ، وكلّ تحيةٍ مفتاح صداقة، وكل لقاء عقد أخوة.
ماذا عليك في الغربة
عليك أيها الغريب أن تهيّئ نفسك قبل حزم حقيبتك، وجرّها خلفك، أن ترمي خلف ظهرك ما اعتدته في وطنك من كثرة الزوّار، والشغف، والبهجة، ومشاركة الحزن، وانفتاح القلوب، هنا ستعرف أنّك خُلقت لتكون وحيدًا أو لتكون ضمن منظومة تحكم العلاقات في الغربة اسمها المصلحجية، فلا تِلْكَ الذكريات باقية، ولا ظلّها مرافق لك، فاسمع نصيحة غادة السمان: «لا تحاول أن تأخذ شجرتك معك إلى الغربة؛ لتحظى بظلّها؛ لأنّ الأشجار لا تهاجر».
عليك أيها الغريب أن تهيّئ نفسك قبل حزم حقيبتك، وجرّها خلفك، أن ترمي خلف ظهرك ما اعتدته في وطنك من كثرة الزوّار، والشغف، والبهجة، ومشاركة الحزن، وانفتاح القلوب.
عليك ألا تنسى أنك هنا في مسرحٍ كبير، وعليك إن لم تُكن تحسن التمثيل، أن تفهم لغته على الأقل؛ حتى لا تسقط في حفرة الوحشة القاتلة، وتستطيع القيام بمهمة التعايش. فإن رأيت قلبك يفلت منك وينطلق دون قيدٍ فأحكم قيده وشُدّ عليه برباط الفهم اللّغوي لمصطلحات مسرح الغربة؛ حتى لا يجعلك تنطلق ظانًّا ما تراه من مشاعر أنها حقيقية، فتفيض معبِّرًا عن ذاتك وأحزانك وهمومك ومشكلاتك.
في هذا المسرح إبحث بدقة عن أولئك الذين ما زالت عندهم بقيةٌ من مسحة إنسان لم يلوّثوا بمنظومة المصلحجية، هذا تجده بين الجمهور ولن تجده على خشبة المسرح؛ لأنهم لا يتقنون التمثيل، فهم من يمكن أن تجد عندهم بقايا ذلك الزمن الإنساني الذي عشته، وربما يكونون لك وطنًا مُصغّرًا؛ إن حظيت بهم.
في الغربة تتجزأ الأشياء عندك كلها تصبح نصفا غير تام أحلامك نصفية، أعمالك نصفية، آمالك نصفية، لا يوجد شيء كامل عندك سوى القلق والأرق. ومن شدة انشطارك تصبح نصف مواطن، نصفٌ يشدُّك للوطن، ونصف يمسك بك في أرض الغربة، يقع عليك وصف أمين معلوف لحال الغريب الذي تسلبه الغربة جعبة طويلة من أيامه فتراه إن عاد إلى وطنه، حنّ إلى تلك الأرض التي تغرّب فيها وظنّها الوطن، وإن عاد للغربة بدأت صفعات الذكريات تلوح أمام ذهنه فيشد عقله الرحال إلى تلك الديار التي ولد فيها.
نعم هكذا تصبح حال الغريب الذي يطول زمن غيابه لا يألف أرض غربته ولا يستطيع التأقلم مرّة أخرى مع أرض وطنه، إنه المتجزّئ إلى ذراتٍ من الذكريات والمستقبل والراحة والطمأنينة والسكون والوحدة والاكتئاب والتفاؤل، إنه جامع المتضادات يقولون: إنّ أكثر الناس اكتئابًا هم أولئك الذين لا يثبتون على حال، فبينا تراه حزينا تخط الدموع خطوطا على وجنتيه؛ وإذ به يرقص لفرح لا يدري مصدره… كثيرًا ما ترى الغرباء هذه أحوالهم. لكن يا تُرى هل صحيح قول القائلين: الغريب هو الذي لا يجد لقمة عيش في الأرض التي ولد فيها، الغريب هو الذي لا يجد كرامته في وطنه، الغريب هو الذي لا يجرؤ على أن يتخيّل مستقبلا مرفّهًا لأولاده في الحارة التي لعب هو فيها؛ لأن دون كل ما ذكر في أرض الأولاد خرط القتاد.
حقيقةً تعجز الفلسفة الواقعية والمجازية عن صياغة إجابةٍ مقنعةٍ لمثل هذه المقارنة، أي بين غريب الوطن لفقره ويأسه وإحباطه من واقعه، وغريب الأرض الراكض وراء لقمة عيشه، أيّهما تجلده سياط الغربة أكثر، ومن منهما يتذوق جمرتها كل يوم أكثر؟ لكن فطرة البشرية تُقرُّ أنّ الحنين يبقى لأول منزل لا ندري هل ميسون الكلبية وقصتها مع قصر معاوية ضربٌ من الخيال، أو نوع من أنواع إلهاء الفقراء بقصصٍ من مثل هذه المثاليات، وأنّ ميسون فضّلتِ الخيمة التي تخفق الأرواح فيها على القصر المنيف، أم أنّها وصفٌ حقيقيٌّ لكلِّ ذي عاطفةٍ جيّاشة ألِفَ الجماعة، وألِف الود وألِف الناس ورأى أنّ الجنة جمالها بناسها، فلم يتحمّل وحدة الغربة ووحشتها، والصور المزيفة على مسرحها.
لكن من ناحيةٍ أخرى ترى أناسًا يقولون لك: إنّ وطننا هو الذي حقّقنا فيه أحلامنا هو الذي رسم لنا خطى المستقبل، هو الذي قال لنا: أنت أنت لا مثيل لك، ومع هذا ثمة سؤالٌ يتحرّك هل هؤلاء بعد أن مروا بزمن المراهقة في بلاد ولدوا فيها، هل هم أنفسهم في خلواتهم لا تتحرك في دواخلهم حرقة الحنين؟ لا أظن أنّ واحدًا لا تتحرك فيه هذه الجمرة التي تُسمّى الحنين؛ لأنك مهما سافرت وتجوّلت تبقى تلك الذاكرة لا تُمحى وتبقى الغربة مسرح حياة لا حياة حقيقية.