عنصرية بعض المثقفين بسبب عزلتهم في الكتب وانفصالهم عن الواقع د. محمد خالد الفجر

الكتب هي التي تمثل الجلساء الذين لا تمل مجالستهم، ولكن عندما يعيش الإنسان ويستغرق بين صفحات الكتب، ويبدأ يتعايش مع الأسطر، قد تؤدي بعض الكتب التي يقرؤها الإنسان إلى تكوين برج عاجي يتمثل في صفحات وأسطر مطبوعة على الورق، ومن ثم يبدأ في تدوين أفكاره التي يظنها تنويرا للمجتمع، ولكنها تكون عبارة عن تمثيل لعنصرية مثقفية (إن صح التعبير).

وهذا ما قرأته من مدة لأحد الكتاب، الممتهنين للتعليم ولتأليف الكتب، حيث فاجأني بتحديد أنساق للناس، وهذه الأنساق صارت تمثل كنتونات تحصر داخلها أصنافا من البشر، ينتمون لمجتمع غير المجتمع الآخر الذي يشاركه الماء والتراب واللغة أيضا.

فوجدنا عند كاتبنا نسقا ريفيًّا ونسقًا مدنيًّا وذهب الكاتب إلى أن النسق الريفي هجم على نسق المدينة وحطم أسوارها وحطم المجتمع المدني وأدى إلى ذوبان النسق المدني نتيجة تعرضه لهجمة شرسة من نسق الريف.

كنت أقرأ كلمات الأديب المثقف، وأتذكر أنه وكثيرين مثله هم في الأصل أبناء ريف قطنوا المدينة من زمن قريب، ولكنهم بعد ان انعزلوا مع الكتب وقرؤوا وكتبوا وحصلوا على جوائز تجاوزوا بها مجتمعاتهم وصاروا يتكلمون وكأنهم من طينة أخرى مغايرة لطينة البشر.

كانت كلمات صاحبنا عن الأنساق الريفية والمدنية متوافقة مع تسلم  شخص من أصول هندية لمنصب رئيس الوزراء في بريطانيا ولكن في الطرف المقابل كان المثقف الذي ظننا أن الجوامع بيننا وبينه أكثر من أن تقطع  يقول لقد غزا أهل الريف المدن واستعمروهم، وتحكموا بهم ويتحدث عن نسق أهل المدن وكأنهم من عرق مغاير للبشرية وأنهم مثقفون واعون وأما أهل الريف فكانوا في نسق مغاير لنسق أهل المدن.

المشكلة  كيف سأفهم معنى الأخوة الإسلامية وأنت تقول هذا الكلام، وكيف سأحترم قولك عن الإسلام وأنك من المنافحين عنه وأنت تتبنى مثل هذا الطرح، يا رجل هل كلامك كلام ثقافي أم عنصري ولنفترض جدلا أن كلامك صحيح فكلامك ينقد أهل المدن ويبين أنهم مجتمع غير محصن وغير متكاتف كما وصفت بحيث استطاع أبناء الريف استعمارهم والتحكم بهم، وأنى لمجتمع متكاتف أن يستطيع أحد أن يفككه.
هذا أمر أما الأمر الثاني ومن واقع الحال أقول لك إذن البريطانيون عليهم أن يقولوا إن الهنود والباكستانيين احتلونا كما أن العنصريين اليوم وفق كلامك  عنصريتهم مشروعة وليست ضد الإنسانية إذا رفضوا قبول اللاجئين والمهاجرين لأنهم يعيشون في نسق مغاير للنسق الأوربي.
لا أدري كيف يسمح إنسان لنفسه أن يتكلم هذا الكلام في عصر أصبح فيه المواطن العالمي هو المصطلح الشائع في الدول العالمية، وانظروا إلى الدول المتقدمة فستجدون أنه أبعد ما يكون في أنظمتهم هو تبني مثل هذا الفكر وكأن مدننا المدن الفاضلة الأفلاطونية والريف هم يأجوج ومأجوج الذين حطموها.
كلنا أبناء آدم يا رجل وآدم من تراب تذكر هذا الأمر ولا تنس أن من يتعرض لقوميتك تشن عليه هجوما كأنه خرج من الملة وأنا لا أنسى كتاباتك عمن تحدث عنك بمثل اللغة التي تتحدث فيها عن أهل الريف ونسقهم المغاير لنسق أهل المدينة.
الأنساق يا أيها الناقد الأديب تكون مغايرة بالأخلاق والتعامل لا بالانتماء للمكان أو العرق أو اللون.

العيش مع الكتب والعزلة عن الواقع

فتّش في السبب وراء ذلك فستجد أن العيش مع الكتب قد يؤدي للأسف إلى نتائج سلبية بحيث يصبح المثقف غريبا عن أبناء مجتمعه ويرمي الكلمات جزافا حتى إنه لا يدرك مدى تأثير كلماته التي ربما تجرح كثرين ممن كانوا يظنون في هذا المثقف أنه ينتمي لقضاياهم ويعايشها، ولكن تبين أنه ينظر إليهم نظرة دونية فمجرد جعله للناس في أنساق يعني أنه يرى نفسه منتميا إلى نسق مغاير للمجتمع الذي يعيش فيه.

وبسبب جهله بالريف وأهله تراه يرميهم بكلمات هم براء منه براءة الذئب من دم يوسف، لو كان منصفا لعاش مع أبناء الريف، وعرف ما فيهم من ثقافة وأخلاق ومبادئ، ولم يكتف بنقل كلام من الكتب التي لا تمثل نصف الحقيقة.

وهكذا يا سادة فإن على المجتمع أن يكون حذرا من تصدير الأشخاص خاصة أولئك الذين ينحنون أمام من يكون أعلى منهم في الموقع الرسمي من حكومة أو مشيخة أو وجاهة اجتماعية، وينظر لأبناء فئة كبيرة من مجتمعه نظرة عنصرية تفوح من خلال سطوره التي يظن أنها لم تُفهم لأنه حاول أن يرمي بالتهمة فئة واحدة من نسق الريف، ولكن كل الأسطر والكلمات توحي بحقد دفين ظهر في الحروف على أبناء الريف عامة.

فإذا كنا نقول إن هناك أشخاصا يتعنصرون علينا ففتشوا بيننا فستجدون من يتحدث عن الحرية والديمقراطية ويشكو الظلم وفي داخله عنصرية فاحت وانتشرت وهي تدل على عقيدة واتجاه بعيد عن الدين الإسلامي والحس الإنساني.