يحار المرء في كيفية تمكن بعض ثنائيي اللغة من الانتقال من لغة لأخرى، دون أن يشعروك أنهم انتقلوا إلى تركيب لغوي مغاير، وخاصة اولئك الذين يقومون بالترجمة الفورية، فهم يستطيعون وبكل سلاسة أن يتكلموا باللغة الاجنبية التي يتحدثها المترجم له، وكذلك يستطيعون فورا الانتقال إلى لغتهم الأم إذا تحدث المترجم له بلغتهم الأم. فما هو العامل الرئيسي في هذه المقدرة، وكيف يمكن الوصول إليها، هذا ما سنحاول الحديث عنه في هذا المقال، بإيجاز نرجو ألّا يكون مُخِلًّا:
دور الدّماغ في هذه المهارة اللغوية:
مسألة اللغة وتكونها وبينتها العميقة داخل الدماغ تجعل المرء يذهل أمام إمكانيات الدماغ الهائلة في الانتقال من بنية صوتية تركيبية للغة إلى بنية صوتية مغايرة، ولكن هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنه ليس كل من يعرف كلمات أو جملا معدودة يمكنه التمتع بهذه المقدرة اللغوية، بل يجب أن يكون عارفا باللغتين معرفة دقيقة ومتحدثا بهما بطلاقة تامة؛ لأن الدماغ كما تقول إحدى الدراسات التي أجرتها الباحثة سارة فيليبس طالبة الدكتوراه في جامعة نيويورك: “إن الدماغ لا يكتشف أن اللغة قد تغيرت”.
وهذا يؤكد ماذكرته قبل قليل، فالتمكن من اللغتين يجعل الدماغ يتعامل معهما على أنهما يحتلان المكانة نفسها عنده، بحيث يصبح الدماغ يتعامل مع اللغتين على أنهما صنوان من ناحية ما يطلق عليه اللغة الأم.
وهذا يمكن أن تلاحظه عندما تبدأ بتعمل لغة من اللغات، فمثلا لا تستطيع فورا أن تفرّق بين اللغتين، كأن تتعلم مع العربية لغتين أجنبيتين، فتجد نسفك تخلط بينهما أثناء حديثك، وهذا لاحظته وأنا أتعلم التركية إلى جوار الإنكليزية؛ لأنني لست متمكنا من كلتيهما، فلهذا عندما أريد التحدّث مع شخص يتقن إحدى اللغتين، فتجدني أخلط بين الإنكليزية والتركية، وهذا يرجع إلى عدم الاستقرار التام للغتين في الدماغ؛ ولهذا يجد صعوبة في اختيار الكلمات التي يريد المتحدث استعمالها في حواره الآني مع محاوره.
كيف يصل ثنائي اللغة إلى التمكن من مهارة التبادل اللغوي؟
-
البدء مبكرًا:
إنّ هذه المهارة تحتاج إلى أمورٍ عدة على رأسها البدء مبكّرًا بتعلم اللغة الأجنبية الثانية، فأكبر ضرر يتعرض له من يحب التحدّث بأكثر من لغة أن يتأخر في تعلم اللغة الأجنبية، فقد أثبتت الدراسات النفسية واللغوية، أن مرحلة التقليد اللغوي التي تمتد من 2-8 سنوات هي المرحلة الأدق في تعلم اللغات، وأن الدماغ في هذه الفترة مستعدٌّ لتعلم أكثر من لغة في الآن نفسه، وهذا يعني أنّ كثيرين من متعددي اللغات أو لنقل معظم من يمتلك هذه المهارة، يخبرك أنه بدأ باكرا في تعلم اللغات، والبدء المبكّر يعطي الإنسان القدرة على تعلم لغات أخرى في زمن متأخر من العمر.
وقد ذكر منذ زمن الدكتور علي عبد الواحد وافي -رحمه الله- في كتابه علم اللغة، قصة الرجل وزوجته المنتميين إلى لغتين مختلفتين، وكيف استطاعا أن يعلما ابنتهما لغتين في الزمن نفسه، فالأم حدّثتها بلغتها، والأب كذلك، وبعدها صارت متقنة للغتين معا.
-
اختيار المصدر اللغوي الصحيح لتعلم اللغة:
أذكر مرّة أنني التقيت بشخص في وزارة التعليم العالي، وكان وقتها يعد العدّة للسفر مبتعثًا إلى إحدى الدول الأجنبية لإتمام تخصصه في دراسة الطب، بلغة أجنبية وفي بلد متقدم في التخصص الذي اختار أن يكمل تعليمه فيه، فقال لي: أنصحك يا صديقي قبل السفر وبعده أن تتعلم لغة أجنبية بإتقان، ولكن قبل التعلّم أحسِن اختيار المكان الذي سيعلمك اللغة، فاختر المراكز الثقافية التابعة للبلدان الأجنبية التي تريد تعغلم لغتها، مثل: المجلس البريطاني، واحرص أن يكون معلّمك من أبناء البلد الأجنبي وليس متعلما للغته، وتابع قائلا مثلا أنا الآن متقن لثلاث لغات أجنبية، وبادئ الآن بالرابعة، فقلت له: هل تتقن الإنكليزية، قال لي: متعجّبًا، هذه أنهيتها من زمن الدراسة الأولى، وعند بدئه بتجربة هو وصديقي الذي كان يدرس الإنكليزية، قال لي صديقي لا أستطيع مجاراته بهذه اللكنة التي يتحدث بها، لأنه تحدّث بلغة إنكليزية لا تفرق بينه وبين أبناء الإنكليزية الأصليين.
فالسر في هذا كان أنه اختار المجتمع اللغوي الذي يعطيه اللغة كما يستعملها أبناؤها صوتا وتركيبا ومعجمًا.
ولهذا فإنك لو حاولت تعلم لغة مرة ومرتين وثلاث مرات دون أنتجد المجتمع اللغوي الذي يعينك على استعمالها، فإنك ستبقى تجد صعوبة في سرعة الانتقال في الحديث من لغة إلى لغة.
-
الاستعمال، ودوام الاتصال:
هناك مسألة مزعجة لكثيرين ممن يتعلمون اللغات الأجنبية، وهي أنه بعد أن يصل إلى مستوى جيد في اللغة الأجنبية التي يتعلمها، يجد نفسه بعد مدة نسي معظمها، فلو سألت معظم من نسي اللغة الأجنبية التي كان على وشك إتقانها عن سبب نسيانه، فإنك ستجد إجماعا يتمحور حول عدم الاستعمال لها، فاللغة مثل أي عضلة في الجسم عندما تحركها بالمران والدربة، فإنها تصبح أكثر مرونة وصلابة وثباتا، وإذا هجرتها ترهّلت وساء منظرها.
ولهذا عليك أن تحرص على الاتصال الدائم باللغة الأجنبية التي تريد تعلّمها، مثل أن تجد شخصا من أبنائها وتحدثه يوميا، وأن تقرأ مقالات من صحف اللغة التي تتعلمها، وأن تشاهد الأفلام، وتستمع لنشرات الأخبار.