ميزات وعيوب العمل الجامعي / د.محمد خالد الفجر
هل العمل الجامعي ما زال ممتعا بالوهج القديم، وهل من يعمل في الجامعة يجد نفسه بعيدا عن التوتر الذي يعاني منه أهل باقي التخصصات العملية في الحياة أم أن هذا العمل أصبح مثله مثل باقي الأعمال مليئا بالتوترات وبعيدا عن مناخ النخبوية الذي كان مستقرا في أذهان أفراد المجتمع هذا ما سنسعى للإجابة عنه في هذه المقالة من خلال الحديث عن ميزات وعيوب العمل الجامعي
ينظر إلى العمل الجامعي نظرة تقدير في معظم المجتمعات الإنسانية منذ بدء أقدم جامعة في العالم، حيث تمثّل الجامعات مراكز الإشعاع الحضاري والإسهام في بناء الحضارة الإنسانية في العالم بأسره، وخاصة أن الأبحاث المهمة للحياة الإنسانية وتطورها كانت من قبل طلاب درسوا في جامعات متقدمة وأهدوا البشرية خلاصة أبحاثهم وأعمالهم العلمية -مع أن كثيرين منهم تركوا الجامعات ولم يتحملوا قيودها وعلى رأسهم ستيف جوبز، أو لم يمارسوا العمل الجامعي وانتقلوا إلى الحياة التطبيقية-.
ثمة سؤال صار يتردد كثيرا في المرحلة الأخيرة، هل العمل في الجامعة يُعد من أعلى الوظائف التي على الطامحين في مستقبل واعد أن يتجّهوا إليها، وازداد هذا السؤال في الترداد بعد انفجار التواصل الفضائي عبر وسائل ونوافذ متعددة جعلت بعض المحللين المختصين في مجال التعليم يتوقعون زوال الشكل التقليدي للتعليم الجامعي بعد فترة ليست بالطويلة، وقد بدأنا نشهد ملامح خمول الوهج في ميدان العمل الجامعي لبعض التخصصات لا سيما المرتبطة بمجال الآداب ومعظم الأعمال الإنسانية، حيث صار الأستاذ الجامعي في هذا المضمار لا يُنظر إليه نظرة القدوة التي يطمح الطالب أن يكون مثله، بل الاتجاه العام ومنذ الثورة الصناعية تحوّل إلى التخصصات التي تدر مالا لمن يتقنها وتجعله مستقلا في استثماراته المالية وضمان حياة اجتماعية كريمة، ومعظم الجيل لا يرى في أساتذة العلوم الإنسانية في الجامعات هذه الرؤية التي تحقق لهم أهم شيء في زمننا وهو الاستقلالية المالية.
كما أننا صرنا نرى أن كثيرين من المحتالين صاروا يستطيعون الحصول وبسهولة على شهادات وهمية في مجال الإنسانيات ويأخذون لقب دكتور وربما بروفيسور من خلال حفنة دولارات يدفعونها لدكاكين تسمى مجازا جامعات، وسط هذا الواقع نود أن نركز في هذا المقال على ميزات وعيوب العمل الجامعي .
وقبل البدء بالحديث عن هذا الموضوع لا بد أن نشير إلى مسألة مهمة وهي عدم وجود عمل على وجه الأرض لا يكون فيه ميزات وعيوب، ولكن كل إنسان يستطيع من خلال معرفة المحاسن والعيوب أن يتخذ قراره في مدى قدرته على تكريس وقته لعمل يجد أن محاسنه تفوق عيوبه وفق رؤيته وتفكيره، أو ينفر من العمل؛ لأن المساوئ التي فيه تفوق المحاسن وفق نظرته للحياة والعمل فيها.
وسنبدأ مقالنا بميزات العمل الجامعي:
أوّلًا: ميزات العمل الجامعي:
كما ذكرنا في المقال فإن من أهم الدوافع لكثيرين في العمل الجامعي هو اعتبارهم أن هذا العمل يعد مكانا للنخب الاجتماعية، وهنا سنذكر بعض الأمور التي تعد من ميزات العمل الجامعي:
1- الأمان الوظيفي:
الإنسان يكد ويجتهد ويعمل كي يصل إلى عمل تتحقق فيه الحياة الكريمة والعمل الجامعي يعد من ناحية الوظائف من أكثر الاعمال أمانا وظيفيا لا سيما بعد الحصول على الترقيات، وهذا يجعل الأستاذ الجامعي أولنقل كثيرا من الطلاب الجامعيين يطمحون إلى الوصول إلى هذ الوظيفة لما تحققه لهم من أمان وظيفي، وخاصة الطلاب الذين لا يكون أهلهم من أصحاب الأعمال الحرة، أي الطلاب الذين يكون آباؤهم موظفين أو يعملون أعمالا بسيطة بالكاد تقوم بحاجات بيوتهم، فمثل هؤلاء يجدون في العمل الجامعي -معيدين، أساتذة مساعدين، أساتذة مشاركين، أساتذة- فرصة لعمل فيه أمان وظيفي وتقدير اجتماعي.
2- المعاش الجيد:
في الغالب يكون راتب الأستاذ الجامعي من أعلى المرتبات في سلم الوظائف الحكومية أو لنقل من المرتبات التي تحقق حياة كريمة للأستاذ، وكذلك فإن الوصول إلى درجات ترقية أعلى تتيح للأستاذ الجامعي التعاقد مع جامعات أخرى تعطيه راتبا أعلى من جامعته التي يعمل بها إذا كانت في دولة فقيرة، مع حفاظه على وظيفته في دولته.
3- الوقت:
يتيح العمل الجامعي للأستاذ وقتا كافيا لإنجاز أبحاثه وتأليف كتبه وممارسة هواياته، إذ إن ساعات العمل الجامعي لا تكون طويلة ولا مكثفة، بل تكون مرنة تساعده في تحقيق كثير من المنجزات على صعيده الشخصي خارج وظيفته.
4- المكانة الاجتماعية:
ينظر إلى الأستاذ الجامعي في معظم البلدان على أنه ينتمي إلى فئة النخب الاجتماعية، وأنه صاحب رؤية فكرية وإنسانية ومعرفية في المجال الذي يعمل به، ولهذا قد تجد أناسا لديهم الكفاية المالية في أعمالهم الحرة، لكنهم يريدون أن يكون لهم دور اجتماعيٌّ أكبر؛ فلهذا يلتحقون بالعمل الجامعي مع عدم حاجتهم إلى مردوده المالي لما يحققونه من دور اجتماعي في بلدهم، ولهذا ترى معظم الفضائيات تستعين بأكاديميين لإبداء آرائهم في كثير من الأمور المعيشة سواء أكانت سياسية أو تاريخية أو اجتماعية أو مالية أو صناعية …إلخ.
حصرنا في التعدادات الأربعة السابقة أهم ميزات العمل الجامعي والآن سننتقل إلى عيوبه:
ثانيًا- عيوب العمل الجامعي:
نشرت مجلة فوربس وموقع كاريير كاست موقع بوابة الأعمال الشهير مقالين منفصلين توافقا فيه على أن عمل الأستاذ الجامعي هو أسهل وأقل الأعمال ضغطا في أمريكا، فهب الأساتذة في تغريدات متتابعة على تويتر غاضبين من هذا الوصف، ومبينين أنه على العكس من ذلك فإن الأستاذ الجامعي يعاني من توتر متواصل يبدأ بتدريس الطلاب ومدى التزامهم بمواعيد المحاضرات وحضورها وتفاعلهم معه إلى الامتحانات ودرجاتها، ثم التنافسية الدائمة مع الزملاء من أجل الترقيات.
وإليكم -أعزاءنا القراء- أهم عيوب العمل الجامعي:
1- المشوار الطويل:
يعاني من يريد الوصول إلى درجة الأستاذ الجامعي من ضغط نفسي يبدأ مع وضع قدمه في الجامعة والدراسة والمثابرة إلى حصوله على آخر ترقية (الأستاذية) وفي بلداننا العربية غالبا ما يستغرق هذا الأمر بين 10-12 سنة للحصول على الدكتوراه، ثم تأتي مرحلة الحصول على ترقية إلى أستاذ مشارك فأستاذ وهذا يختلف من بلد عربي لآخر ومن قانون جامعي لآخر أيضا، ولكن في الغالب ستأخذ من 6-10 سنوات. هذا في حال لم ترفض أبحاثه وكانت أموره تسير وفق الامور العملية والعمرية، وهذا المشوار يعني البقاء طالبا خاضعا لقرارات غيرك لفترة ليست بالقليلة.
2- القيد الوظيفي:
صحيح أن الأستاذ الجامعي ممتع أكثر من غيره في حرية اختيار ساعات محاضراته، ووجوده في الجامعة إلا أنه يعاني من القيد الوظيفي حتى وهو في بيته، فهو لا يدري متى يطلب لاجتماع ومتى يطلب منه أعمال أخرى غير تدريسه للطلاب، وهذا يعني انشغاله في بيته بإنجاز علمي او بوسواس ما يدار في العمل ضده من قبل زملائه.
هذا عدا عن أن المشوار الطويل الذي تحدثنا عنه في الفقرة السابقة يعني قيدًا كبيرًا فهو في المعيدية سيكون خاضعا لرئيس القسم مطيعا له في كل الأومر التي يطلبها منه؛ حتى لو كانت في غاية الغباء، ثم سيكون لطيفا مطيعا لمشرفه ويا لسوء حظه! لوكان مشرفه مريضا نفسيا يعاني من عقدة التسلط التي مورست عليه فيسعى المشرف إلى تفريغ كل عقده في طالبه المسكين، وهكذا في الدكتوراه، ثم يأتي قيد تنفيذ ما يطلب منه للترقيات. وفي الوظيفة يكون ملزما بالتحضير الجيد للطلاب ومتابعة أمورهم وتصحيح أوراقهم والاستماع إلى اعتراضاتهم، وهذا يعني أن بعض الأساتذة قد يبقون مشغولين بالعمل والتحضير وهم في بيوتهم أو في عطلهم وأعني أولئك الأساتذة المخلصين الراغبين في نشر العلم والفائدة.
3- التوتر الدائم:
كما ذكرنا لكم سابقا فإن جريدة فوربس التي نشرت مقالا عن أن الأساتذة الجامعيين هم أقل الناس عرضة للتوتر في أعمالهم في أمريكا، إلا أن هذه المجلة نفسها غيّرت المقال وقالت المحررة المسؤولة عنه، إنه بعد أن جاءتني اعتراضات وتعليقات كثيرة من الأساتذة الجامعيين الذين بينوا لها أن توترهم لا يتوقف فهم متوترون في التحضير للطلاب وفي الإلقاء أمامهم، وكذلك في تحقيقهم للترقيات وفي تنفيذ الأعمال المطلوبة منهم للحصول على ترقياتهم، والمحافظة على رواتبهم، ويضاف إلى ذلك جو العمل مع فريق في الغالب تنتشر بينه أخلاق الحقد والحسد والتناحر ولا سيما في أقسام العلوم الإنسانية.
ومن أسباب التوتر أن يرى أناسا لا يستحقون أي درجة وظيفية ثم يكونون أعلى منهم في الدرجة الوظيفية بسبب دعم مسؤول او تاجر أو صاحب سلطة لوجودهم في المكان الذي هم فيه، أما هو أي المتمتع بالمقدرات العلمية وقد تعب وسهر وناضل للوصول إلى درجته الأكاديمية فيجد نفسه على الهامش.
ومن الأسباب أيضا أنه ربما سيصدم بمدى استغناء الجامعة عنه فهو يظن من خلال استغراقه في البحث والعمل أن له شأنا كبيرا ولكن في أيامنا كثير من الأساتذة الجامعيين يتنازلون عن كثير من الأمور لتيسير أمور عملهم وعدم تعرضهم لتنبيهات من رؤسائهم فيقبلون ما يطلب منهم صاغرين مما يزيد مرجل التوتر لديهم.
4- الروتين الإداري:
تجد عددا ليس بالقليل من الأساتذة يشكو من غباء القرارات الإدارية التي يجب عليه تطبيقها رغم أنها لا تمت للواقع ولا للمنطق بصلة، ولكن يجد نفسه مضطرا للقبول والتنفيذ حفاظا على وظيفته أو للحصول على الترقيات التي ربما يحول بينه وبينها أستاذ آخر لم ينفذ له طلبه أو اعترض على قراره فينقم ذاك الأستاذ عليه ويشكل عصابة تقف في طريق ترقياته.
من خلال ما تقدّم يمكن أن نقول الآتي: إن الإنسان الذي يمتلك قدرة على الصبر وتحمل القيود والتعامل مع الروتين الإداري، والعمل ضمن فريق عمل ربما لا يتجانس معه ولكن يستطيع أن يتعامل معه لتأمين سير العملية التعليمية، وكذلك يكون مالكا لمهارة تأليف الكتب وكتابة الأبحاث العلمية بشكل متواصل وعنده صبر على تصرفات الطلاب التي ربما تكون نوعا من السخرية به -طبعا لا نعمم هذه الظاهرة- ولكن لا ننفي وجودها، مثل هذا الإنسان سيكون العمل الجامعي مناسبا وملائما له وسيحقق فيه طموحه ويجد الاستقرار فيه، لكن إذا كان الشخص لا يصبر على الروتين الإداري والغبن وأخذ حقه ووجود أناس في درجات أعلى منه مع أنه يمتلك مؤهلات علمية أكثر منهم، إلا أن علاقات أولئك الأشخاص بالإدارة أفضل منه فرشحوا لتلك الترقيات، أو يجد نفسه غير قادر على الدبلوماسية في التعامل مع فريق أكاديمي فيه المؤهل وغير المؤهل وفيه الصادق واللص، أو يكون لا يتحمل القيد الوظيفي، ولا الالتزام بمواقيت يحددها له غيره، ولا أن يكون منتجا علميا من أجل المحافظة على راتبه وألا ينقص عن زملائه، أو يكون إنسانا صريحا جدا لا يساير طالبا ولا زميلا ولا مدير فمثل هذا الإنسان سيجد ضغطا نفسيًّا لا يمكن وصفه في العمل الجامعي، وهذا الضغط ربما يستمر معه حتى آخر عمره، ونعرف قصص أساتذة كثرا كانت وفاتهم بسكتات قلبية وكثيرون من المقربينمنهم قالوا إنهم كانوا يعانون من ضغط نفسي هائل في جو العمل الذي كانوا لا يستطيعون تحمله ويصبرون عليه مكرهين فانفجر قلبهم وفارقوا الحياة فالعمل الجامعي ليس لمثل هؤلاء، بل أي عمل وظيفي لن يكون مناسبا لهم.