هل العمل عن بعد الذي انتقلت إليه كثير من الدول له إيجابيات على حياتنا المعاصرة أم العكس
د. محمد خالد الفجر
في مقال نشرته صحيفة الجارديان تحت عنوان: “العمل من المنزل كيف غيرنا إلى الأبد” تعرض محررو المقال لمسألة العمل عن بعد وكيف أن كثيرين من الموظفين وجدوا أنفسهم قادرين على إنجاز الكثير من الاعمال من أي مكان وجد فيه حاسوبهم الشخصي، حتى ولو على طاولة المطبخ.
المقال الطويل لا يصف العمل عن بعد وحسب بل ينتقل للحديث عن أثر هذه النقلة النوعية في مسار الحياة الإنسانية والاجتماعية في بريطانيا والقارئ لهذا المقال، يعرف تماما أن ما تحدثت عنه في بريطانيا ينطبق على كثير من المجتمعات الإنسانية حتى ولو كانت أقل في سلم التقدم الحضاري عن المملكة المتحدة.
أذكر أننا قرأنا في مرحلة التحضير للماجستير في دورة اجتياز امتحان اللغة الإنكليزية وفي كتاب (North Star)، درسا عن العمل عن بعد وكان هذا في سنة 2003، حيث أشار الدرس إلى أن العالم يطمح إلى الوصول إلى تاخيير الموظف بين العمل وجها لوجه، أو ما يطلق عليه حاليا الحضور الفيزيائي، وبين العمل عن بعد، وعدّد الدرس ميزات وعيوب العمل عن بعد، فمن الميزات أنك تستطيع العمل في أي لحظة وفي أي وقت وفي أي مكان، كما أن له ميزة أنه لن يشغل الموظف حيزا في المكان ولن يستهل من موارد الطاقة في الشركة، وأما العيوب فكان منها ضعف التواصل الاجتماعي، وربما الملل الذي سيحصل من الوحدة في البيت، ومن مصاحبة الأجهزة لوقت طويل.
هذا الدرس الذي مر عليه قرابة 19 عاما لم نكن نتوقع أنه مجرد تجربة تدرس وحسب، بل لم يكن يتوقع كثيرون في العالم أن سنة وباء واحدة ستحول كثيرا من الأعمال إلى المنازل، بل إن دولا كثيرة ما كانت تظن أن لديها الإمكانات التي تؤهلها لمثل هذه النقلة في ميدان العمل.
نعود إلى مقالنا الذي نتحدث عنه والذي نشر في الجاريدان حيث إن المحررين ذكروا هذه النقلة وأنه كان المتوقع لها أن تحدث في 2027 حيث سيبقى عاملا في المكاتب 1 من عشرة أشخاص، ولكن الوباء، وتطوراته أدت إلى تسريع هذا التغر في بيئات العمل.
إن المقال وقف على مسائل مهمة ترتبط بميزة العمل عن بعج وعلى رأسها تخفيف الضغط في المواصلات، بحيث يؤدي بقاء عدد كبير من الموظفين في بيوتهم إلى أن يقللوا من عدد المستخدمين لوسائل النقل وهذا يعني أن التلوث سيخف أيضا.
الأمر الثاني وهو الذي يرتبط بالعالم بأسره على ما نراه من مشكلات سكنية حيث تعرض المقال لمسألة مهمة وهي أن الموظفين لا يستطيعون شراء منازل في وسط لندن وكذلك المدن الكبيرة لاخرى، وهذا على ما اظن ينطبق على موظفي العالم بأسره، وكذلك لا يستطيعون الاستقرار في الضواحي؛ لان الزمن الذي يحتاجون إليه للوصول إلى مكاتبهم سيصبح طويلا إذا استقروا في الضواحي خارج المدن الرئيسية، وهذا يعني تأخرهم عن وقت عملهم؛ ولهذا فإن العمل عن بعد سييسر للموظفين أن يسكنوا في أماكن بعيدة وسيؤدي أيضا إلى حركة تجارية في شراء العقارات خارج المدن الكبرى؛ لأن الموظف لن يحتاج إلى مغادرة مكان إقامته من أجل عمله.
طبعا يؤكد المقال أن ثمة أعمالًا لا يمكن أن تنجز عن بعد، ولكن نسبة الأعمال التي يمكن إنجازها عن بعد ليست قليلة أبدا.
وأما عن السلبيات فإن أكثر شيء ركز عليه المقال هو مسألة الخلافات بين الأزواج حيث ارتفعت نسبة الانفصال في بريطانيا، نتيجة الملل من كثرة جلوس الشريكين معا، وكان الخروج للعمل يكسر هذا الروتين ويعيد الدفء للعلاقات.
كما أن استقرار الناس في المنازل أدى إلى تقلبات في تجارة التجزئة وخاصة في البلدان المتقدمة التي تشهد سهولة في التسوق الإلكتروني حيث انتقل كثير من الناس إلى التسوق عبر النت، ويشر المقال إلى عدد من المتاجر المهمة التي أغلقت أبوابها بسبب قلة الزبائن وخصاة في فترات الحجر الطويلة.
إن ندوب وآثار هذه الجائحة على ما يبدو أظهرت لنا مدى تردد العالم كله في اختيار النظام الملائم لحياتنا خلال وبعد التأقلم مع الوباء، فكما يقول الباحثون فإن كثيرا من الناس مازالت نتائج الوباء على حالتهم النفسية لم تنته بعد، خاصة مع كثرة المتحورات التي تتوالد يوميا.
أعود إلى الدرس الذي تحدثت عنه قبل قليل لأنه وضع وقته اقتراحا من أجل العمل عن بعد يقول: إن الشركات التي تريد النجاح في المستقبل عليها أن تخير الموظف بين العمل عن بعد أو العمل وجها لوجه، كما اقترح اقتراحا آخر يقوم على المزج بين الصورتين بحيث يكلف الموظف بأعمال يمكن تنفيذها عن بعد، ويبقى قسم آخر يتطلب حضور الموظف.