نقرأ كثيرا عن سر العادة، وسر الحياة، وسر النفس، وكثير منا يريد أن يملك هذا السر، وكثيرون يضعون أفكارا واقتراحات للوصول إلى هذا السر، وأنا أظن أن الاستغناء مفتاح مهم من مفاتيح بوابة السعادة.
فهنيئا لذلك الشخص الذي برمج قلبه على الاستغناء والقدرة على العيش وحيدا ذلك الذي مثل دوره ياسر العظمة في إحدى حلقات مرايا الرائعة عندما سجن نفسه بين الكتب، وصار يطالع الحياة كلها؛ وذلك على أن يأخذ مبلغا هائلا من المال إذا استطاع الصبر هذه المدة وحده في البيت بين كتب وجدران لا يرى أحدًا ولا يكلم أحدًا وقبل أن ينتهي الرهان بيوم خرج؛ لأنه فقه الحياة بما فيها عرف عوالمها وأناسيها هذا الشخص صحيح أنه ربما يستحيل وجوده ولكن المغزى أنك تستطيع الاستغناء عن كل ما في هذه الحياة وتعيش الحياة بسعادة. والدليل على ذلك أنه كم من مكان ظننت أنك لو غادرته تموت؛ وإذ بالله يقدر عليك مغادرته وتتأقلم مع المكان الذي تذهب إليه صحيح أنك تردد: وحنينه أبدا لاول منزل؛ ولكن عندما يمر الوقت ويطول سترى صعوبة في العودة إلى المكان الأول عندما تتاح لك فرصة العودة إليه وهكذا حتى الأشخاص تألفهم وتحبهم وربما تعشق فتاة وتظن أنها حياتك وإذ بك تتزوج غيرها وتصبح ذكرى مرت في حياتك وربما تكرر الزواج مرات ومرات وهكذا كل ما على هذه الأرض يمكن الاستغناء عنه فلا تكن عبدا لغير المستحق للعبادة وهو الله إياك أن تتعلق بأحد سواه هناك في الحياة بعد الله شخصان لا يمكن الاستغنا عنهما أو تعويضهما هما الأب والأم وما سواهما لن يعطيك نصف حبهما ولا ربعه، فكن ملازما لقدميهما إن استطعت فطاعتهما بعد طاعة الله ولا تفاجأ بأي طعنة من غيرهما فعش على هذا المبدأ تهنأ في حياتك ولا تتعلق بشيء وتعامل الناس بكل حب ولا تنتظر شيئا من أحد ولا تتأثر بإهمال أو استصغار من أحد ولا ينكسر قلبك من شيء ولا تبكي على فائت.
فانظر حولك فستجد أن كثيرا يضعون رقابهم تحت نير الذل لأنهم لا يمتلكون فلسفة الاستغناء، بل لا يريدون أن يستغنوا عن من يستعبدهم لأنهم لا يجرؤون على اختيار البديل، ومن ألف الذل عشقه وتمسك به.
كم من شخص يعمل في دول المال ومعه مئات الآلاف من الدولارات ويشكو التعامل السيئ والإهانة اليومية له، ولكنه لا يجرؤ على اتخاذ قرار الاستغناء عن مكان ذله، بل يشعرك أنه سيموت جوعا وفاقة إن ترك واستغنى عن مكان عمله، ما ذلك إلا لشيء واحد وهو أنه صار عبدا لمستعبده وهو لا يدري أو يدري ولكنه يرفض أن يعلن هذا الشيء.
قال الشاعر الشنفرى قديما
وَفي الأَرضِ مَنأى لِلكَريمِ عَنِ الأَذى
وَفيها لِمَن خافَ القِلى مُتَعَزَّلُ
لَعَمرُكَ ما في الأَرضِ ضيقٌ عَلى اِمرئٍ
سَرى راغِباً أَو راهِباً وَهوَ يَعقِلُ
وهكذا فأرض الله واسعة فيها لمن رغب في الحرية والاستغناء زوايا وأماكن تغنيه وتسعده، ولكن المهم أن يكون هذا الإنسان قادرا على التحرر فعندها سيتمكن من فك قيوده والانطلاق في هذا العالم المترامي الأطراف.